من السهل تفسير فوز الرئيس الفنزويلي "هوغو شافيز" الساحق في صناديق الاقتراع بالقول إنه يمثل علامة مؤكدة على أن الراديكالية اليسارية سوف تجتاح بقية دول أميركا الجنوبية. بيد أن الدلائل التي تدعم هذا الرأي لا تزال محدودة- حتى الآن على الأقل.
وفوز "شافيز" في الاستفتاء الذي أجري على رئاسته في الخامس عشر من أغسطس الحالي، يمكن إرجاعه إلى أسباب تقتصر تحديدا على فنزويلا دون غيرها، منها: الارتفاع القياسي لأسعار النفط الذي مكنَّ "شافيز" من استخدام بعض الألاعيب الانتخابية في الفترة التي سبقت الاستفتاء، ومنها قيام حكومته بإنفاق مبالغ كبيرة على تقديم الخدمات الاجتماعية في الأحياء الفقيرة. وهذه الممارسة ليست بغريبة، وإنما هي نموذج عتيق الطراز للغاية من نماذج سياسات الرعاية التي طالما دأب "شافيز" - وهنا تكمن المفارقة- على انتقادها بعنف. بالإضافة لذلك استفاد "شافيز" بذكاء من الجدل المحتدم حول سياسة الولايات المتحدة في العراق التي لم يتوان عن شن هجوم شديد عليها.
وعلى رغم الأداء السيئ للغاية للاقتصاد الفنزويلي تحت حكم شافيز -كانت المؤشرات كلها تشير إلى تدهور هذا الاقتصاد- فإن الاقتصاد الفنزويلي يتوقع أن ينمو بمعدل يقترب من 10 في المئة خلال هذا العام، صعودا من المستويات الدنيا التي كان قد وصل إليها في كافة المجالات. ومما لاشك فيه أن الكثيرين من الفنزويليين الفقراء قد تمكنوا من الاستفادة من حكم "شافيز" خلال الشهور الستة الماضية - وليست السنوات الست- وهو أمر مفهوم بالطبع.
بالنسبة لـ "شافيز" كان توقيت التصويت ممتازا، كما كانت الظروف المصاحبة استثنائية. والسؤال الآن هو: هل سيقوم "شافيز" بعد أن تعززت شرعيته بترسيخ "الثروة" في فنزويلا وعبر أميركا اللاتينية؟ من العبث أن نحاول هنا التنبؤ بسلوكه، ولكن المرء مضطر مع ذلك أن يتساءل عما يعنيه المعلقون- بل وما يعنيه شافيز نفسه- بكلمة "الثورة".
فدستور "شافيز" الذي أصدره عام 1999 لا يختلف عمليا عن الدستور السابق في فنزويلا والذي صدر عام 1961. كما أن الإصلاح الزراعي الذي تم التشدق به طويلا وكثيرا، لم يكن سوى بند هامشي على أجندة "شافيز"، أو كان في أفضل أحواله إصلاحا تم تنفيذه بأسلوب متراخ. واللافت للنظر أنه على رغم أن" شافيز" يعد من المعادين للقطاع الخاص، إلا أنه قد بذل جهودا دؤوبة وناجحة في اجتذاب الاستثمارات الأجنبية في مجال النفط، كما أننا لم نسمع عن أية شكاوى جدية ضده في "وول ستريت".
وإذا ما كانت هذه هي الثورة بمقاييس أميركا اللاتينية, فإنها إذن لثورة غريبة. فخُطب "شافيز"، حتى إذا ما سلمنا أنها تتمتع بقبول عاطفي من جانب الجماهير، لا يتوقع لها أن تجد صدى كبيرا في باقي أميركا اللاتينية. ليس هناك من شك في أن هناك ردود فعل قوية في بعض البلدان ضد إصلاحات السوق، إلا أننا نجد مع ذلك أن حكومات تلك البلدان تسعى باتجاه تحقيق الانضباط المالي -وهو ما يعد شرطا لازما من شروط تلك الإصلاحات- ولا تسعى في الاتجاه المعاكس لذلك. فهذه السياسات لا تمثل سياسات رشيدة فقط، ولكنها أيضا تمثل نوعا من المناورات السياسية الذكية. ووفقا للاستفتاء الذي أجراه مركز "لاتينوباروميترو" لاستطلاعات الرأي عام 2004، فإن معظم الأميركيين اللاتينيين يحبذون اقتصاد السوق، وليس الاقتصاد الموجه.
وتعد البرازيل وهي أكبر دولة أميركية لاتينية، والدولة القائدة في محيطها الإقليمي مثالا بارزا على ذلك. فالرئيس البرازيلي "لويز إناسيو لولا دي سيلفا" رئيس حزب العمال، هو الرجل الذي يجسد آمال التجربة اليسارية، وأجندة الإصلاح الاجتماعي الشامل في هذا البلد الكبير. ومع ذلك فإن سياساته في مجال الاقتصاد الكلي أو ما يعرف بـ Macroeconomic كانت نموذجا للأساليب التقليدية، ولم ينتج عنها سوى تحقيق منافع سياسية له. علاوة على ذلك فإننا نجد أيضا أن "ليونيل فرنانديز" الرئيس الجديد لـ "الدومينيكان" اقترح مؤخرا إجراء تعديلات مالية بنسبة 20 في المئة.
فمع محدودية الخيارات المتاحة أمامهم -نظرا لأن الجميع ليس لديهم احتياطات نفطية- فإن قادة دول أميركا اللاتينية، لا يجدون أمامهم من وسيلة سوى إتباع أسلوب المصارحة مع جماهيرهم وعدم إخفاء شيء عنها.
والبيرو والإكوادور وكولومبيا جيران فنزويلا وشركاؤها في جبال "الأنديز" انضمت مؤخرا إلى المكسيك وشيلي، كما انضمت في فترة أقرب إلى بلدان أميركا الوسطى في السعي لعقد اتفاقات تجارية مع الولايات المتحدة الأميركية. وعلى رغم أن المشاعر المعادية لحرية التجارة شديدة في بعض أجزاء المنطقة، فإن حكومات تلك الدول تسعى دوما من أجل تحقيق المزيد من التواجد في أسواق الولايات المتحدة الأميركية.
وحتى بوليفيا، وهي الدولة التي اضطر رئيسها إلى الاستقالة في شهر أكتوبر الماضي عقب الاعتراضات التي وجهت إليه، لم تتخل حتى الآن تماما عن وصفات الإصلاح السوقية، كما أن الحكومة الجديدة في هذه الدولة، والتي تخشى حدوث المزيد من الاهتزازات، شاركت كمراقب في المحادثات ال